بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد فهذه هي الطبعة الثانية لرسالة شيخ الإسلام ابن تيمية رجمه الله تعالى في "اللباس في الصلاة" يقوم بإعادة طبعها الأستاذ الفاضل الأخ زهير الشاويش الدائب على نشر الكتب النافعة التي ملؤها الثقافة الإسلامية الصافية وبخاصة منها كتب الحديث وتأليفات شيخي الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن تخطى بخطاهما وسار بسيرهما مثل مجدد دعوة التوحيد في بلاد نجد وما حولها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره رحمه الله تعالى.
ص -6- رسالة شيخ الإسلام هذه هي من رسائله العظيمة حقا فإنها على لطافة حجمها قد لا يجد الطالب الكثير منه في الموسوعات الفقهية وموضوعها في اللباس الواجب على كل من الرجل والمرأة في الصلاة فقد أهبت فيها بالأدلة القاطعة أن هذا اللباس ليس هو اللباس يستر به الرجل عورته خارج الصلاة فقط بل إنه يجب عليه شيء آخر وهو ستر المنكبين أيضا وهذا لحق الصلاة وحرمتها لا لأنها من العورة واستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء"، وبأحاديث أخرى "ص 12 - 13". وهذه مسألة هامة طالما غفل عنها جماهير المصلين الذين يصلون في قميص "الشيال" الذي لا يستر المنكبين إلا خطا دقيقا منهما غافلين عن قول الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. وما أحسن ما ذكر المؤلف "ص 17" "إن ابن عمر رضي الله عنه قال لغلامه نافع لما رآه يصلي حاسر الرأس: أرأيت لو خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا؟ قال: لا قال: فالله أحق من يتجمل له والجملة الأخيرة قد جاءت مرفوعة في بعض الطرق عن ابن عمر ولفظها في رواية للبيهقي "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحق من تزين له"1 وسبب الغفلة المذكورة عن هذا الأدب الواجب في الصلاة يعود في رأيي إلى أمرين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "صحيح أبي داود 645"
ص -7- الأول: ظن الكثيرين أن الواجب من اللباس في الصلاة إنما هو ما ستر العورة فقط. وهذا الحصر مع أنه مما لا دليل عليه مطلقا فهو مخالفة صريحة للنصوص المتقدمة ولا سيما الحديث الأول فإنه يدل على بطلان الصلاة إذا لم يكن على عاتقيه من ثوب شيء. وهو مذهب الحنابلة1 وهو الحق الذي لا ريب فيه.
والآخر: جمودهم على التقليد الأعمى فقد يقرؤون أو يسمعون بلك النصوص ولكنهم يتأثرون بها ولا يتخذونها لهم نذهبا لأن المذهب الذي نشأوا عليه يحول بينهم وبين الاهتداء بها ولذلك فالسنة في جانب وهم في جانب كما هو شأنهم في هذه المسألة إلا من عصم الله وقليل ما هم فجزى الله شيخ الإسلام خيرا الذي نهد لهم السبيل في هذه الرسالة المباركة ليتعرفوا على كثير من الحقائق التي غفلوا عنها ومنها هذه. ومن ذلك أنه إذ كان لا يجوز له أن يصلي مكشوف الفخذين سواء قيل: هما عورة أولا؟ "ص 16" وهذا من فقهه الدقيق رحمه الله تعالى.
هذا في لباس الرجل في الصلاة وأما المرأة فقد بين الشيخ رحمه الله أنها وإن كان يجب عليها الجلباب إذا خرجت من بيتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "منار السبيل 1/ 74 - طبع المكتب الإسلامي" وحاشية الشيخ سليمان رحمه الله على "المقنع
1/ 116"
ص -8- فإنه لا بجب عليها الجلباب إذا صلت في بيتها وإنما يجب عليها الخمار والقميص الذي يستر ظاهر القدمين فهي إذا سجدت قد يبدو باطن قدمها. كذلك يجوز لها أن تكشف عن وجهها وكفيها مع كونهما من العورة خارج الصلاة في اختياره. "انظر ص 13 – 15"1. وعلى العكس من ذلك فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار بينما هي في غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها وعند ذوي محارمها وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز ابتداؤه في غير الصلاة وقد يبدو في الصلاة ما يستره عن الرجال "ص 12 و 13". وهذا أيضا من دقائق المسائل التي تولى شيخ الإسلام رحمه الله شرحها وبيانها جزاه الله عن الإسلام خيرا.
ومن ذلك أنه مع تقريره أن الحجاب مختص بالحرائر دون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واختار جمهور العلماء أبو حنيفة ومالك والشافعي وكذا أحمد في رواية ذكرها المصنف نفسه "ص 24" أن وجهها وكفيها ليس بعورة وهو الذي نصرته في كتابي حجاب المرأة المسلمة واستدللت له بالكتاب والسنة والآثار عن نساء السلف بما قد لا يوجد عموما في كتاب آخر وليس معنى ذلك أنه لا يشرع سترها كلا بل ذلك هو الأفضل كما فصلته في فصل خاص عقدته في الكتاب المذكور تحت عنوان "مشروعية ستر الوجه" "ص 47 - 53" من الطبعة الثالثة فمن نسب إلى ممن حاول الرد علي في هذه المسألة فلم يفلح - أنني قلت أو قال كدت أقول: بوجوب كشف المرأة لوجهها فقد كذب وافترى كما يشهد بذلك الفضل المشار إليه آنفا.
ص -9- الإماء وأن الأمة يظهر منها رأسها وشعرها "ص 26" فإنه يعود ليناقش المسألة على ضوء بعض القواعد الإسلامية العامة التي منها "درء المفاسد قبل جلب المصالح" فلا يدع المسألة على إطلاقها المستلزم جواز بروز الأمة الحسناء أيضا بشعرها فيقول بعد توطئة مفيدة:
وكذلك الأمة إذا كان يخاف منها الفتنة كان عليها أن تحتجب "ص 27". ثم يؤكد ذلك فيقول:
"فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد".
أقول: وعلى هذا فمذهب ابن تيمية وسط بين الجمهور الذين لا يوجبون الخمار على الأمة مطلقا وبين ابن حزم غير الذين يوجبون ذلك عليها. مطلقا ومن الواضح أنه إنما ذهب ابن تيمية إلى ذلك توفيقا بين بعض الآثار التي تدل لمذهب الجمهور "انظر ص 26 ، 33" وبين القاعدة المشار إليها آنفا. وهذا المذهب وإن كان أقرب إلى الصواب من مذهب الجمهور الذي كنا استدللنا على رده في كتاب "حجاب المرأة المسلمة" "ص 42 – 46". فلا يزال في النفس منه شيء لأن تقدير الجمال المترتب عليه خوف الفساد أمر نسبي وكم من أمة سوداء تكون جميلة الأعضاء والتكوين بحيث يفتتن بها البيض ثم إنها قد لا تكون كذلك عند هؤلاء ولكنها جميلة عند بني جنسها من السود. فالأمر غير منضبط. والله أعلم.
ص -10- ومن ذلك أنه رجح مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية لأنه يخاف ثورانها وقال "ص 34":
ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة والأصل أن ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما.
أقول: ولو أن العلماء قديما والكتاب حديثا راعوا هذا الأصل الذي ذكره: "ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز" وجعله دليلا مرجح لتحريم النظر المذكور لما تورطوا في إصدار بعض الفتاوى التي لا يشك المتفقه في أصول الشريعة وفروعها أنها تؤدي إلى مفاسد ظاهرة كقول بعض الحنفية:
"يجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثدييها1" وقول بعض المذاهب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "أحكام القرآن" لأبي بكر الجصاص الحنفي "3 / 390" وكتابي "حجاب المرأة" "ص 44"
فإن فيه ردا على القول المذكور ومع ذلك لم ننج من أن يتهمنا بعض الحنفية أنفسهم بأني أبيح النظر إلى وجه المرأة وأخشى ما أخشاه أي يكون ذلك على قول المثل: رمتني بدائها وانسلت.
ص -11- "يجوز النظر إلى المرأة الأجنبية وعورتها من المرآة"
وعلل ذلك بعضهم بأنه إنما ينظر إلى خيال وتبنى ذلك اليوم - مع الأسف - أحد الأحزاب الإسلامية الذي يأخذ من كل مذهب ما يناسب المصلحة بزعمه ولم يقف عند هذا فحسب بل إنه جعله كالنص المعصوم فرتب عليه ما هو أشد إفسادا من الأول لأنه أمس بحياة شبابنا اليوم وواقعهم وهو جواز النظر إلى الصور الخلاعية في التلفزيون والسينما والمجلات معللا ذلك بما تقدم أنه إنما ينظر إلى خيال وكل ذي عقل ولب حتى ولو كان غير مسلم يعلم يقينا أن هذه الصور من أشد الأنواع المثيرة لشهوة الشباب وغرائزهم بحيث أنهم لا يجدون بعد ذلك سبيلا إلى إطفائها إلا بارتكاب المحرم نصا ولو كان تحريمه من باب سد الذريعة كالنظر والسمع ونحوهما مما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ".... وزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه" أخرجه الشيخان وغيرهما1.
وليس هذا فقط فقد أصدر نشرة منذ عهد غير بعيد ذهب فيها إلى التصريح بجواز تقبيل المرأة الأجنبية عند السلام عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد خرجته في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للشيخ ابن ضويان "1787".
ص -12- ولكن بدون شهوة وقد قلنا وقال غيرنا لبعض أولئك الحزبيين: افترض أن يفعل ذلك بأختك وزوجتك فوجم!
ولهم من مثل هذه المسائل البعيدة عن الكتاب والسنة بل العقل السليم الشيء الكثير لا مجال الآن للتوسع فيه وإنما استطردنا إلى ما ذكرنا من شواذهم وانحرافهم عن العلم الصحيح لنقول:
يجب على هؤلاء وغيرهم ممن يهمهم أن يكونوا على معرفة بالعلم الصحيح المستنبط من الكتاب والسنة استنباطا قائما على العلم بالقواعد الأصولية وحسن تطبيق لها على الفروع أن يجعلوا دينهم - بعد دراسة الكتاب والسنة - مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومنها هذه الرسالة المباركة - وبذلك يتمرنون على الاستنباط الصحيح والتفريح الرجيح وينجون من الإتيان باجتهادات وآراء لا يقول بها أحد ممن يعقل ما ينطق به لسانه أو يجري به قلمه من مثل ما تقدم بيانه!
تلك هي بعض المسائل التي جاءت في طي هذه الرسالة القيمة وفيها مسائل وفوائد أخرى ستمر بالقارئ إن شاء الله تعالى وبمجموعها كانت الرسالة فريدة في بابها لا مثيل لها بين أترابها فإن غالبها ما تفردت به عن مثيلاتها ككتاب "الحجاب" للعلامة المودودي وكتابي "حجاب المرأة المسلمة" وغيرهما فليعض عليها بالنواجذ وليحمد الله تعالى أن جعله من قراء كتب ابن تيمية المستفيدين منها فإنه هو "العارف بالله" حقا ومن نحا نحوه.
ص -13- ونحن إذ نشهد له بهذا لا ندعي له العصمة كيف وقد أبدينا بعض الملاحظات على مواطن معدودة قليلة من الرسالة مصداقا لقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: ما منا من أحد إلا ورد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي عن غيره أيضا1 وذلك مما لا يحط من قدره أو قدر رسالته بلا ريب بل إن ذلك ليرفع من قيمتها للقلة المشار إليها على حد قول الشاعر:
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
بل لا عيب عليه في ذلك مطلقا فإنه مجتهد مأجور إما أجرين وهو الأكثر بفضل الله أو أجرا واحدا.
هذا وقد كانت الرسالة طبعت سابقا تحت عنوان "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة وغيرها" ولولا أن ثمة بعض الموانع منها اشتهارها بالاسم المذكور لرأيت أن نجعل عنوانها:
لباس الرجل والمرأة في الصلاة
لأنه هو الموضوع الذي اختصت به الرسالة ودندن المؤلف حوله وجاء بما يعز وجوده من الفوائد والفقه الصحيح.
وقد زدت في التعليق عليها بعض الفوائد العلمية والحديثية مما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "صفة الصلاة" "ص 28 - الطبعة السابعة".
ص -14- كان فاتني في الطبعة السابقة وبذلك ازدادت الفائدة بهذه الطبعة على سابقتها فالحمد لله الذي يسر لنا ذلك ووفق الأستاذ الأخ أبو بكر زهير الشاويش لطبعها من جديد في هذا الثوب القشيب.
نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصا لوجهه وأن ينفع به المسلمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
دمشق في 7 رمضان سنة 1393
وكتبه: محمد ناصر الدين الألباني